سفر التكوين هو أول أسفار التوراة (أسفار موسى الخمسة) وأول أسفار التناخ، وهو جزء من التوراة العبرية، كما أنه أول أسفار العهد القديم لدى المسيحيين.
مكتوب فيه أحداث تبدأ مع بدء الخليقة وسيرة حياة بعض الأنبياء، ومذكور فيه كيف خلق الله الكون والإنسان وكيف اختار الله النبي نوح لكي ينذر البشرية من الطوفان الذي كان قادما إليها، ثم دعوة الله لإبراهيم وإسحاق ويعقوب أبي الأسباط ثم كيف بيع يوسف من قبل إخوته إلى تجار العبيد ووصوله إلى مصر وتملكه على كل أرض مصر، فسفر التكوين يسرد الأحداث منذ بدء الخليقة إلى فترة نهاية حياة يوسف.
الهوية[عدل]
أصل التسمية[
يسمى السفر في العبرية بي راشيت (بالعبرية: בְּרֵאשִׁית)، والتي تعني حرفيًا في اللغة العربية: في البدء، وهما الكلمتان الأولى والثانية من السفر: "في البدء، خلق الله السماوات والأرض".[تك 1:1] وحينما ترجم أحبار اليهود الكتاب إلى اللغة اليونانية في القرن الثاني قبل الميلاد، في الترجمة المعروفة باسم الترجمة السبعينية للكتاب المقدس، اختاروا اسم الأصل أوتكوين(باليونانية: Γύνεσις) في الإشارة إلى «تكوين» السماء والأرض، غير أن التقليد اللاحق اكتفى بالإشارة إلى كل سفر بالكلمة الأولى من العنوان، فهناك «تكوين» السماء والأرض، و«خروج» بني إسرائيل من مصر، و«عدد» الأسباط، و«تثنية» الاشتراع أي تكرار الشريعة، وكلها تعرف باسم التوراة أي الشريعة اليهودية المكتوبة.[1]
أصل التأليف[عدل]
كانت قضية التأليف، لدى اليهود الأوائل والمسيحيين من بعدهم، قضية بسيطة ومحسومة، فإن النبي موسى كتب السفر في برية قادش ما وراء نهر الأردن قبيل وفاته في مرحلة التيه،[2] استنادًا إلى منطوق الأسفار نفسها بخصوص النسبة، على سبيل المثال: "كما هو مكتوب في شريعة موسى رجل الله".[عز 2:3][3] غير أنّ الفكر الديني منذ القرن التاسع عشر، بات أشد حساسيّة لقضية التأليف وتاريخيته. لا يزال حتى اليوم، عدد وافر من المنظمات والجماعات الدينية اليهودية والمسيحية، تتمسك بحرفية النسبة إلى موسى، كفرضية تستلزم الإيمان بها، أما الجماعات الأخرى ضمن التراث اليهودي المسيحي، فهي ترى أنّ "في أصل هذا التاريخ الأدبي، تقاليد يرقى عهدها إلى أيام موسى، وقد تكون انتقلت مشافهة مدة طويلة من الزمن قبل أن يجمعها ويحررها كتاب ملهمون في مختلف العصور التي منها ينهلون الرؤية والفكر والأسلوب"؛[4] وبحكم الأمر الواقع، فإن الانتقال مشفاهة، يفضي إلى ظهور فروق في الروايات، فهكذا ظهرت روايتين للخلق، وروايتين للطوفان، وروايتين لطرد هاجر، وثلاث روايات عن أحد الآباء الذي يعلن أمام أحد الملوك أن زوجته هي أخته.[5] ويمكن من خلال التحليل الأدبي، معرفة الظروف التي أحاطت بهذه الروايات، كما يمكننا من معرفة "أن الجمع النهائي للتوراة إجمالاً، والذي تمّ في القرن الخامس قبل الميلاد، على يد النبي عزرا على الأرجح، قد راعى باحترام مجمل التقاليد الدينية للشعب الإسرائيلي على اختلافها، بدلاً من حذفها أو طمسها، ودون أن يتركنا تحليل التوراة الأدبي أمام عناصر متغايرة مبعثرة، فهو يظهر لنا بمزيد من الوضوح سبب وحدتها العميقة ألا وهو الروح الواحد".[4]
القانونية والقبول[عدل]
سفر التكوين قبل بقانونيته - أي قانون أو لائحة كتب الكتاب المقدس - من قبل اليهود بمن فيهم السامريين، وكذلك جميع المسيحيين. ولم يحصل أبدًا نزاع حول قانونيته. سفر التكوين حسب هذا الاعتقاد، هو سفر مُلهَم، أي أن الله ألهم المؤلف حين كتب، والإلهام من حيث مفهوم الوحي الكتابي مختلف عن الإنزال، فالإنزال يعني أن النصّ قد سجل بطريقة حرفيّة آلية وليس لأي إنسان دور فيه، أما الكتاب المقدس إجمالاً، هو سفر موحى به لدى جميع اليهود والمسيحيين، بمعنى أن المؤلف كان عنده أفكار عن الحقائق التي أراد كتابتها، فكتبها بأسلوبه الخاص، وتفكيره وبالصيغ الأدبية والثقافية الخاصة به والسائدة في زمانه، لذلك يستطيع الباحث أن يستنتج الكثير من صفات السفر والظروف التي كانت قائمة في وسطه، إذا ما حلل أسلوب الكتابة، وفي داخل هذه التعابير التي لها صياغة بشرية، مضمون إلهي وفكرة إلهية.[6]
البنية[عدل]
حلقات المواضيع[عدل]
يقسم عادة سفر التكوين إلى حلقتين كبيرتين، أصل الكون والإنسان في الفصول 1-11، وأصل الآباء وأصل شعب إسرائيل 12-50. ويمكن تمييز داخل هذه الحلقات الكبيرة، على حلقات صغيرة داخلها، فالجزء الأول من أصل الكون والإنسان، يتألف من أربعة حلقات صغيرة، الأولى ي كيف صنع الله الإنسان من التراب وأقامه بين النبات والحيوان، والثانية كيف دخل الشر إلى العالم حينما أصغى الإنسان لأصوات غير صوت الله، وهو ما ينعكس في جريمة القتل الأولى بين قايين وهابيل، وسقوط الملائكة، والحلقة الثالثة تظهر البشرية التي حاولت أن تؤلف وحدتها في برج بابل بمعزل عن الله ففشلت، وفي الحلقة الرابعة يبدأ الله بخطيته لتحقيق وحدة وتجميع البشر، فيخلّص نوحًا من الطوفان، وأقام عهدًا معه ومن خلاله عبر ذريته مع البشرية كلها، واختار منها إبراهيم ليبارك بواسطتها جميع الأمم؛ وهنا تبدأ الحلقة الثانية الكبرى التي تشرح تكوين شعب إسرائيل، وهي تتألف أيضًا من أربعة حلقات صغرى، الأولى هي إبراهيم، الذي انتقل من مكان إلى مكان، ومن مقدس إلى مقدس، ونال بركة الله، وولد له إسماعيل واسحق، وتختم حلقة إبراهيم بزواج اسحق من إحدى قريباته في بلاد آرام، ومع حلقة صغيرة تالية عن اسحق وريث إبراهيم، تظهر الحلقة الثالثة عن يعقوب، جد الأسباط والملقب "إسرائيل" فمنح الشعب اسمه؛ أما الحلقة الرابعة والأخيرة فهي يوسف في مصر، فيستقبل إخوته وينقذهم من المجاعة، ولن يلبث يوسف أن يموت هو أيضًا تاركًا ذويه في أرضٍ سوف يذوقون فيها العبودية، وسيكون موضوع تحريرهم وإعادتهم إلى "أرض الآباء" موضوع السفر التالي أي سفر الخروج.[7][8]
التقاليد الأدبية
-
- هذه النظرية، غير مقبولة من قبل جميع المنظمات والمذاهب في التراث اليهودي المسيحي، وهي انطلقت من غير أوساط رجال الدين، وتبنت من قبل عدد وافر منهم لاحقًا.
إلى جانب تقسيم سفر التكوين حسب تسلسل مواضيعه، فهناك التقسيم الثاني الذي يعتمد أساسًا على النقد النصي، وفقه اللغة العبرية القديمة وتطورها، والفوارق الإنشائية في النصوص، ويعرّف باسم "التقسيم العرضي" مقابل التقسيم الطولي الخاص بحلقات السفر. أحد أبرز القضايا التي ساعدت في التأسيس لنظرية التقاليد الأدبيّة، الواسعة القبول بين علماء الكتاب المقدس، هي استعمال ألفاظ جلالة مختلفة، ولاسيّما في الروايات المتوازية، على سبيل المثال فإنّ إحدى روايتي طرد هاجر تستخدم اسم الجلالة يهوه - والذي كتبه اليهود إنما نطقوه تبجيلاً أدوناي بمعنى الرّب أو السيّد، ومنها في الترجمة السبعينية كيريوس، ومن هنا استخدمت النسخ العربية لفظ الرّب للإشارة إليه - والرواية الثانية تستعمل الاسم الشائع للجلالة ئيل، وانطلاقًا من ذلك أقرّ النقاد هذين الاسمين لتسمية تقليدين أدبيين مختلفين، التقليد اليهوي ويرمز له (ي)، والتقليد الإلوهيمي ويرمز له (أ)، وإلى جانب هذين التقليدين هناك تقاليد ثالث هو الكهنوتي (ك)، والأقل وضوحًا في سفر التكوين.[9]
لكل تقليد من التقاليد الثلاثة، ما تميّز به، فإن التقليد اليهودي واقعي وتصويري وغني بالاستعارات، وله إنشاء رواي قصص، ولا يتردد في الكلام عن الله بألفاظ كثيرة الصور والتشابيه على سبيل المثال: "سمعا وقع خطا الرّب الإله"،[تك 8:3] "إنه يروي خلق الإنسان بأسلوب مجازي تكثر فيه الصور والتشابيه، وبهذه الطريقة يفسّر اليهوي عن إيمانه بالله الذي خلق الإنسان ومنحه الحياة"؛[10] وفي المقابل، فإنّ الإلوهيمي أشدّ إبرازًا لله بوصفه خالق الكون ومتعالي عنه، أما التقليد الكهنوتي فهو نصوص مرتكزة على تشاريع، ويمتاز إنشاؤه بالتكرار وحصر الأعداد؛ وكمحصلة فإنّ التقليد اليهودي أشدّ اهتمامًا بإبراز العلاقة القائمة بين الله والإنسان، والإلوهيمي أشدّ اهتمامًا بإبراز السمو الإلهي، والكهنوتي أكثر انتباهًا لأمور القانون والعبادة، على سبيل المثال فإنّ روايتي الخلق، الكهنوتية تعكس سيادة الله على العالم كلّه، بينما اليهوية تبرز بوجه خاص العلاقة القائمة بين الله والإنسان.[11]
يعود التدوين المكتوب للرواية اليهوية، إلى القرن العاشر قبل الميلاد باتفاق الآراء، في القدس في زمن الملكية في إسرائيل التي أسسها داود النبي، أما الرواية الإلوهيمية فيعود لما بعد وفاة سليمان وانقسام المملكة الموحدة في القرن التاسع قبل الميلاد، وتنقل تقاليد من الشمال - أي الجليل لا القدس -، وتتردد فيها "أصداء التيار النبوي الصاعد في إسرائيل"؛ أما أحدث التقاليد تدوينًا فهو التقليد الكهنوتي، وقد كتب على الأرجح في العراق زمن السبي، ولذلك فهو تقليد أزمة كاملة: لقد أجلي الرجال والنساء إلى بابل، وخسرت إسرائيل بلادها، وزال الملك والهيكل، ولم يعد بإمكان اليهود المنفيين في بابل أن يحجوا إلى الهيكل، فتبرز الإله بوصفه إله الكون وحافظ البشرية في شخص نوح،[12] أما أهميته الكبرى تأتي لكونه الوعاء الذي ربط بين التقليدين السابقين ونسجهما في بنية واحدة. حين عاد إسرائيل من سبيه في بابل، وشرع في بناء الهيكل بقيادة النبي عزرا، أراد جمع التقاليد كلّها وتدوينها في كتاب واحد محفوظ، وبلذلك اكتمل تدوين التوارة بالشكل المتعارف عليه اليوم، ولم يطمس جمع الكتاب النهائي أبدًا أيًا من التقاليد السابقة، بل أعاد ترتيبها وتبويبها مقرًا إياها جميعها، "ناقلاً إلينا الإنشاء والروح الذي تتصف بهما التقاليد السابقة، وتاركًا أثارًا ظاهرة نستطيع بفضلها أن نكون فكرة عن مراحل هذا التقليد، ويدلل أيضًا على أمانة التحرير النهائي لتلك التقاليد الوافرة".[13]
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق